علم الطب النبوي
تؤلف الأحاديث النبوية المتعلقة بالطب، من صحة ومرض ودواء وداء، جزءاً من مصنفات المحدثين وكتب علوم الحديث النبوي الشريف، وهي تخضع كغيرها لمنهج النقد الحديثي، وللحكم عليها بعد ذلك.
إلا أنه ومنذ القديم قام كثير من العلماء بإفراد هذه الأحاديث في مؤلفات خاصة بها، كما قاموا بشرحها والتعليق عليها، وإضافة كثير مما يتعلق بطب الأعشاب إليها، وما ذلك إلا لأهمية علم الطب من جهة، ولإبراز ما وفق الله سبحانه نبيه وهداه إليه من علاجات ونصائح وأدوية وإجراءات كانت تمثل علماً خاصا، ثبت في الواقع المجرب وعند أصحاب الاختصاص صحته وأهميته.
تنبيه هام بخصوص الطب النبوي:
وفي البداية نؤكد نحن ـ ومن قبلنا كل من سبق ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكلم في الطب وليس بطبيب، وعالج أصحابه وليس بآس، وإنما هو رسول من عند الله سبحانه علمه مالم يعلم، وكان فضل الله عليه كبيرا.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (زاد المعاد إلى هدي خير العباد): وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء، فإن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل، وطب غيره أكثره حدسي وظنون وتجارب، ولاينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة، فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به، وكمالُ التلقي له بالإيمان والإذعان، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور، إن لم يتلق هذا التلقي لم يحصل به شفاء الصدور من أدوائه، بل لا يزيد المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم ومرضاً إلى مرضهم.
تعريف الطب النبوي:
وإذا كان لابد من توضيح معنى الطب النبوي، فلننقل ما قاله الشيخ الطبيب محمود ناظم نسيمي رحمه الله في كتابه الرائع ( الطب النبوي والعلم الحديث) وهو من أفضل وآخر ما كتب في هذا الباب، قال: الطب النبوي هو مجموع ما ثبت وروده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما له علاقة بالطب سواء كان آية قرآنية كريمة أو أحاديث نبوية شريفة.
كما لابد من توضيح أن الطب النبوي لم يكن طباً متكاملاً يضم كل فروع الطب، كما هو الحال في الطب اليوناني أو الهندي أو الفارسي، بل كان طباً مميزاً عما سبقه أو لحقه، إلا أنه في معظمه يدخل تحت قسم الطـب الوقائـي، وبعضه ـ وهو الأقل ـ يدخل تحت قسم الطب العلاجي، كما أن بعضه ـ وهـو قليل أيضاًـ يتعلق بشيء من علوم الطب كعلم الأجنة والوراثة وبعضه الأخير يتعلق بآداب مهنة الطب وأحكامه الشرعية.
مجالات الطب النبوي:
1 ـ ففي مجال الطب الوقائي:
فقد كان للصحة البدنية حظ وافر من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك أنه أمر باستعمال الماء في الوضوء أو الغسل عند كل إرادة صلاة، وفي مواطن عديدة، كما أمر بتقليم الأظافر ونتف الإبط والعانة، وغسل اليدين عند القيام من النوم وعند الطعام، وأمر باستعمال السواك دائماً لتنظيف الفم، وأمر بتعهد الشعر بالقص والتسريح، وأمر بنظافة السبيلين بعد كل تبول أو تغوط...
كما أنه عليه الصلاة والسلام في مجال الطب الوقائي أمرنا بتحريك أعضائنا في كل صلاة، وذلك نوع من الرياضة البدنية إن لم يكن مقصوداً لذاته فهو حاصل على كل حال..
كما جاءنا عليه الصلاة والسلام بحل الطيبات من الطعام وتحريم الخبائث منها كالميتة والخنزير والدم، وأمرنا بالاعتدال في الطعام والشراب وعدم الإسراف فيهما.
كذلك جاءنا عليه السلام بالصيام كعبادة أصلاُ، إلا أنها تتعلق من جوانب كثيرة بالوقاية من الأمراض الجسمية، وتحصّل كثيراً من الفوائد الصحية.
وحرم علينا الخمر التي لا تعد ولا تحصى أضرارها الصحية، وغير الصحية وألحق بها كل ما أسكر كالحشيش والمخدرات، ورأى كثير من العلماء أن التبغ لاحق بها لضرره..
كما أمرنا عليه الصلاة والسلام بالختان الذي هو سبب من أسباب الاحتراز عن الإصابة بالأمراض، كما أمرنا بالزواج ولا تخفى منافعه الصحية على البدن، كما نهانا عن مخالطة المرأة الحائض أو النفساء، وفي ذلك مافيه من الفوائد الصحية، وحرم علينا الزنا واللواط والاستمناء وهي أشياء أشد ما تكون أضراراً بالصحة.
وأمرنا بنظافة الثياب والمساكن والطريق، والتحرز فيها عن الأوساخ والنجاسات.
وأمرنا بالابتعاد عن الأمراض المعدية، مع اعتقاد أنها لاتصيب إلا بإذن الله، فإذا وقع الطاعون في بلد فلا ندخله وإذا كنا فيه فلا نخرج منه، حتى لاتنتقل إلينا العدوى أو ننقلها، وأمر بعزل المصابين ( وفر من المجذوم فرارك من الأسد) (رواه الشيخان عن أبي هريرة ) واهتم بالصحة النفسية والقلبية اهتماماً زائداً ما عليه مزيد.
2 ـ وفي مجال الطب العلاجي:
شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم التداوي ، واعتبره من الدين ودعا إليه وأمر به (تداووا عباد الله فإن الله لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم)(رواه أحمد والأربعة وابن حبان والحاكم عن أسماء بنت شريك) إلا أنه حرم علينا التداوي بالمحرمات كالخمر( إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) (رواه البخاري تعليقا وصححه ابن حجر) كما رأى كثير من العلماء حل الانتفاع بأعضاء الموتى لعلاج المرضى الأحياء.
ومن جانب آخر نرى ـ في مجال الطب العلاجي ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وصفات علاجية لبعض الأمراض، كالعسل وهو غذاء قيم ودواء نافع { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } (سورة النحل/69) وقال عليه السلام: (عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن )(رواه ابن ماجه والحاكم وصححه السيوطي)، كما ذكر في الأحاديث الاستشفاء بالحبة السوداء وماء الكمأة والحجامة والكي والسناء والسَّنُّوت والقسط الهندي وألبان الإبل وأبوالها وتبريد الماء للحمى والإثمد وغير ذلك.
ونرى كذلك في مجال الطب العلاجي أن الطب النبوي اعتنى عناية فائقة بالعلاج الروحي المعتمد على الاستشفاء بالقرآن الكريم والأدعية الصالحة والاستغاثة بالله سبحانه { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين }(الإسراء/82) ونهانا عن الاستشفاء بالسحر أو اللجوء إلى الدجالين أو الخوف من الجن ونحو ذلك.
ومن العلاج الروحي ماروي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله ما أنام الليل من الأرق، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرض وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت، كن لي جاراً من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط عليّ أحد منهم أو يبغي عليّ، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ولا إله إلا أنت " (رواه الترمذي عن بريدة).
3 ـ ومن الطب النبوي أيضاً ما جاء من الآيات والأحاديث متناولاً مواضيع طبية بحتة، سبق فيها الطب النبوي الطب العالمي كافة بالتناول الموضوعي الصادق، كالحديث عن خلق الأجنة في بطون الأمهات: من نطفة إلى علقة فمضغة ثم خلق آخر، ومقدار البقاء في كل طور: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، ف**ونا العظام لحما،ً ثم أنشأناه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين }(المؤمنون /14) وقوله عليه السلام : "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل، ذلك ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح...الخ "(رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود) وكالحديث عن الأرحام وظلماتها الثلاث، والحديث عن خلق الذكر أو الأنثى، والحديث عن وراثة الصفات عن الوالدين، والحديث عن عدة المرأة المطلقة أو غيرها للتأكد من خلو الرحم.
4 ـ ومن الطب النبوي تلك الأحاديث والأحكام الشرعية المتعلقة بممارسة الطب وضرورة الخبرة، حتى يرفع عن الطبيب ضمان حياة أو سلامة المريض، وضرورة احترام الطب للأحكام الشرعية أثناء المزاولة لهذه المهنة، والحديث عن تطبيب الرجل للمرأة والع**، والحديث عن أجرة الطبيب وغير ذلك.
الكتب الشهيرة في الطب النبوي:
وفي ختام حديثنا عن الطب النبوي نستعرض أهم الكتب والمؤلفات في هذا المجال.
فمن المؤلفات المخطوطة وبعضها مفقود/ رسالة الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا التي كتبها للمأمون، وكتاب (الطب النبوي) لعبد الملك بن حبيب الأندلسي، و(الطب النبوي) لأبي بكر بن السني، و(الطب النبوي) للحميدي و(الطب النبوي) لعبد الحسن الأشبيلي، و(الطب النبوي) للحافظ السخاوي، و(الطب النبوي) لحبيب النيسابوري، و(الطب النبوي) لأبي نعيم الأصفهاني، وكتاب (الأربعين الطبية المستخرجة من سنن ابن ماجه) لمحمد البرزالي وقد طبع، و(الشفا في الطب) للتيفاشي، و(الأحكام النبوية في الصناعة الطبية) لابن طرخان وقد طبع، و(تذكرة في الطب النبوي) للبدر بن جماعة، و(الطب النبوي) للذهبي مطبوع، و(الطب النبوي) ـ وهو جزء من زاد المعاد ـ لابن القيم مطبوع.
الطب النبوي والطب الشرعي:
وينبغي التنبيه إلى أن ما يسمى بالطب الشرعي لا علاقة له بالطب النبوي، بل الطب الشرعي اصطلاح إفرنجي، يراد به الوصول إلى الحقيقة في بيان أسباب الوفاة، أو حال المريض، أو تقدير الإصابة، ونحو ذلك مما يتعلق به سير المحاكم وفصل القضاء، وتقدير الحقوق الواجبة على أهلها، أو براءة المشتبه بهم بهذا الخصوص